تنازع الاختصاص في القضايا التجارية بين المحاكم واللجان،إن الاختصاص القضائي يُعد من أخطر المسائل في النظام القضائي، فهو الذي يحدد الجهة المخوّلة قانونًا للفصل في النزاع. وفي القضايا التجارية، يزداد الأمر حساسية نظرًا لتداخل الأنشطة الاقتصادية وتنوعها، مما قد يؤدي إلى تنازع الاختصاص بين المحاكم التجارية واللجان الإدارية ذات الطابع القضائي (مثل لجان الأوراق المالية، لجان المنازعات المصرفية، لجان الإفلاس).
وقد عالج نظام المحاكم التجارية هذه الإشكالية بنصوص واضحة، مع إرساء مبادئ تضمن ألا تضيع حقوق المتقاضين بسبب تضارب الجهات، وألا يتحول النزاع حول “من ينظر القضية؟” إلى عائق أمام الفصل في جوهر الحق.
أولًا: الأساس النظامي لمعالجة تنازع الاختصاص:
- نص النظام على أن المحاكم التجارية هي صاحبة الولاية العامة في القضايا التجارية، ما لم يُستثنَ بنص خاص.
- أحال النظام بعض المنازعات إلى لجان متخصصة، مثل:
- لجان الأوراق المالية (النزاعات المتعلقة بالسوق المالية).
- لجان المنازعات المصرفية (النزاعات مع البنوك).
- لجان الإفلاس (القضايا الخاصة بإجراءات الإفلاس والتصفية).
- أكد النظام على أن الفصل في تنازع الاختصاص يتم عن طريق المحكمة العليا ضمانًا لوحدة التوجه القضائي.
ثانيًا: صور تنازع الاختصاص في القضايا التجارية:
1.تنازع إيجابي: عندما تدّعي جهتان أن لهما اختصاص الفصل في ذات القضية.
2.تنازع سلبي: عندما تتنصل جهتان من الاختصاص وتُحيل كل منهما النزاع إلى الأخرى.
3.تنازع بين المحاكم واللجان: مثل حالة دعوى مرفوعة أمام المحكمة التجارية وأخرى أمام لجنة الأوراق المالية تتعلق بالواقعة ذاتها.
ثالثًا: آثار تنازع الاختصاص:
1.تعطيل الفصل في النزاع وتأخير صدور الأحكام.
2.زيادة التكاليف على الأطراف بسبب تكرار الإجراءات أمام أكثر من جهة.
3.إضعاف الثقة بالبيئة العدلية إذا شعر المتقاضي أن النظام لا يحدد بوضوح الجهة المختصة.
4.مخاطر الأحكام المتعارضة إذا فصلت جهتان مختلفتان في النزاع ذاته.
رابعًا: مبادئ قضائية لمعالجة التنازع:
1.الولاية العامة للمحاكم التجارية: الأصل أن تختص المحاكم التجارية بجميع المنازعات التجارية.
2.الاختصاص بنص خاص: إذا ورد نص يُحيل النزاع إلى لجنة معينة، فالاختصاص ينعقد لها.
3.مرجعية المحكمة العليا: عند التنازع بين جهتين، تفصل المحكمة العليا باعتبارها المرجع الأعلى.
4.تغليب التخصص: إذا تعارض اختصاص المحكمة العامة والتجارية، يُقدّم الاختصاص المتخصص.
خامسًا: التحديات العملية:
1.تداخل الأنشطة الاقتصادية: مثل نزاع يجمع بين جانب تجاري وجانب مصرفي، أو تجاري وسوق مالي.
2.ضعف وعي المتقاضين: قد يرفعون الدعوى أمام جهة غير مختصة فيضيع وقتهم.
3.بطء الفصل في التنازع: انتظار قرار المحكمة العليا قد يؤدي إلى إطالة أمد الخصومة.
4.تعدد الجهات شبه القضائية: وجود عدد كبير من اللجان يجعل من الضروري تحديد الحدود بدقة.
سادسًا: المقارنة مع الأنظمة الدولية:
- في فرنسا: هناك “محكمة التنازع” (Tribunal des conflits) لحسم النزاعات بين القضاء العادي والإداري.
- في مصر: المحكمة الدستورية العليا تختص بالفصل في تنازع الاختصاص بين جهات القضاء.
- في السعودية: الميزة أن المحكمة العليا هي المرجع، ما يضمن وحدة التوجه القضائي وعدم تضارب المبادئ.
سابعًا: أمثلة تطبيقية:
1.دعوى ضد بنك: رفعها العميل أمام المحكمة التجارية، بينما تمسك البنك باختصاص لجنة المنازعات المصرفية ➝ حسمت المحكمة العليا النزاع وأكدت اختصاص اللجنة.
2.نزاع حول تداول أسهم: أحيل خطأً للمحكمة التجارية، ثم قضت المحكمة العليا باختصاص لجنة الأوراق المالية.
3.دعوى إفلاس: رفعها شريك أمام المحكمة التجارية، لكن وُجه النزاع للجنة الإفلاس باعتبارها المختصة بنص خاص.
ثامنًا: مقترحات لمعالجة تنازع الاختصاص:
1.إصدار لائحة تفسيرية تحدد بدقة الحدود بين اختصاص المحاكم واللجان.
2.توحيد قنوات التقديم الإلكتروني بحيث يوجّه النظام الدعوى تلقائيًا إلى الجهة المختصة.
3.تسريع الفصل في تنازع الاختصاص عبر دوائر متخصصة في المحكمة العليا.
4.تعزيز الوعي القانوني بين المحامين والمتقاضين لتفادي رفع الدعوى أمام جهة غير مختصة.
5.دمج بعض اللجان داخل المحاكم التجارية مستقبلاً لتقليل التنازع.